الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

تكون العلوم وظهورها

تكون العلوم وظهورها:
غالبا ما يظهر من العلم أولا تطبيقاته العملية، ثم بعد ذلك إذا ازدادت تطبيقات ذلك العلم، احتيج فيه إلى معرفة القانون العام الذي يربط بين تلك التطبيقات والقضايا الجزئية في قانون عام كلي.
فأولا ظهر من الفقه مسائل متناثرة، ثم كثرت هذه المسائل، حتى لاحظ بعض الحذاق من الفقهاء والعلماء ضرورة اكتشاف القوانين العامة التي تظهر بناءً عليها تلك الجزئيات الفقهية، فظهر علم أصول الفقه بعد ظهور الفقه.
ولا ريب أن مسائل أصول الفقه ثابت في نفس الأمر، في نفس مرتبة مسائل الفقه، وأن مسائل قبل مسائل الفقه في الرتبة، لأن ثبوت الأصل يجب أن يكون قبل ثبوت الفرع.
وكذلك نقول: ظهرت تطبيقات علم الحديث في الحكم على الأحاديث والرجال، ثم لما كثرت وانتشرت جزئياتها، اشتدت الحاجة لسبر وتحديد القوانين العامة والكلية التي بناء عليها يمكن إظهار تلك المسائل الجزئية، فظهر علم المصطلح.
ونفس الأمر يقال في ما يتعلق بالنحو وتطبيقات النحو، واللغة وأصول اللغة.
بل يمكن أن نقول إن هذا قانون عام في كل العلوم حتى الطبيعية منها.
وكذلك يقال في علم الكلام، فإذا ظهرت الحاجة إلى أصول الفقه بعد ظهور الفقه ومسائله، وظهرت الحاجةإلى قوانين علم النحو، بعد انتشار التطبيقات النحوية، وهكذا، فإننا نقول إن الحاجة اشتدت إلى استظهار القوانين الكلية لعلم الكلام بالمعنى والتعريف الذي ذكرناه بعد ظهور وقرب كمال جميع العلوم الإسلامية وكثير من العلوم الأخرى التي يتوقف عليها. وظهور مسائله متأخرة عن غيره من العلوم، لا يستلزم أنه أقل منزلة من سائر تلك العلوم، بل إن هذا هو عينه الدليل على أولوية بل أولية علم الكلام على غيره من العلوم. لأن قواعده الكلية لها مسائل، وهذه المسائل هي قواعد لتلك العلوم الأخرى. فأصول جميع العلوم الأخرى موجودة في علم الكلام. ولذلك يقول العلماء إن علم الكلام أشرف العلوم، فإنه وإن كان من آخر العلوم ظهورا إلا إنه من أولها ثبوتا.

وسوف نبين فيما يلي بعض جهات اعتماد العلوم والفكر الإسلامي على علم الكلام:
لا نتردد حين نقول إن العلاقة التي نحاول توضيحها وبيان أركانها بين علم الكلام وسائر العلوم الإسلامية، لم يسلم بها بعض المسلمين، ونحن لم ندع لها البداهة حتى تسلم من المعارضة والخلاف.
ولذلك ظهرت بعض الأقوال التي تحذر من علم الكلام.
ومن هذه الأقوال: فرَّ من الكلام كما تفر من الأسد.
من طلب الدين بالكلام فقد تزندق.
وما نقل من كقول الشافعي:حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ بالكلام.
وغير هذه من الأقوال.
وكان لذلك أسباب في نظرنا، نحاول أن نجملها فيما يلي:
أولا: إن علم الكلام لم يكن قد ظهر بصورته كعلم مؤسس متكامل، بل كان قد ظهر بعض مسائله، ولا ريب أن أول المسائل ظهورا عادة هي المسائل الخلافية التي يكثر فيها الصراع، ومن أمثلة هذه المسائل التي كانت سببا في تلك الأحكام على علم الكلام : مسألة كلام الله تعالى وهل القرآن مخلوق أو لا، ومسألة فاعل الكبيرة، ومسألة الخروج على الحاكم هل يجوز أو لا، والتجسيم والتشبيه.
وأنا لا أشك لحظة أن الإمام الشافعي كان ملاحظا آراء الفرق المخالفة كالمعتزلة والخوارج وغيرهم عندما قال تلك المقولة التي نسبت إليه. وإلا فلا يمكن أن نتصور بحال من الأحوال أنه كان يقصد ذم علم الكلام من حيث هو بحث في أمور تتعلق بعقائد الإسلام وتنزيه الله تعالى، والدفاع عن الدين ومسلماته والمقطوع فيه، كما صار إليه علم الكلام لاحقا.
ثانيا: استند كثير من الذين يذمون علم الكلام على أقوال صدرت من بعض المحدثين، الذين لم يروا في علم الكلام إلا تشغيبا ولم يعلموا من المتكلمة إلا أهل الفرق المخالفة كالمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرهم. فكان حكمهم على علم الكلام تعميما لموقفهم على هذه الفرق، ظانين أنهم بذلك يصونون بيضة الدين ويحافظون على عقائده سليمة.
ثالثا: كان كثير من الذين عارضوا علم الكلام من بعض فرق المجسمة والمشبهة الذين كان من الطبيعي أن يعارضوا هذا العلم، لأن الناظر في هذا العلم والعارف بقضاياه لا يمكن أن يرضى ولا أن يقبل المقولات والأحكام التي يطلقونها في حق الله تعالى، فكان موقف هؤلاء دفاعا عن مذهبهم لا غير، ومحاولة منهم لسد الباب الذي يأتي منه الرد عليهم. وذلك نحو ما ورد عن الهروي صاحب ذم الكلام وغيره.
رابعا: لا ريب أن فحولة الفرق الإسلامية كالأشاعرة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الأخرى كالشيعة والإباضية والزيدية، لم يعارضوا الكلام كعلم، بل كانت معارضاتهم فيما بينهم في المقولات والأحكام التي يتبناها كل واحد منهم حسب نظرته ومذهبه. ولذلك فإننا لا يجوز أن نغفل عن أن الأسماء الكبيرة اللامعة في تاريخنا الفكري الإسلامي في مختلف العلوم والمعارف الدينية كانوا من المتكلمين، كالقاضي الباقلاني والجويني والغزالي، والإمام الرازي والأرموي والإمام الآمدي، والسعد التفتازاني والعضد والكاتبي والكلنبوي، وكالقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري، وغيرهم كثيرون لا يتسع المقام لتعداد أسمائهم.
خامسا: إن الحركة التاريخية لعلم الكلام لم تزل في تصاعد مستمر، حتى صار بعد فترة وجيزة من المسلمات بين العلماء، أقصد جماهير العلماء، أن علم الكلام يحل بين العلوم الإسلامية في أعلى محل وأشرف مكان. ولم تزل هذه النظرة موجودة ومعتبرة بين العلماء حتى بدايات القرن الماضي، حيث صارت الأنظار تنصرف عنه نتيجة مؤثرات عديدة من أهمها في نظري تأثر كثير من المفكرين بالفكر الغربي وانجرافهم نحوه، وفقدانهم الثقة في العلوم الإسلامية، ولم يكن هذا إلا نتيجة قلة تعمقهم في هذه العلوم. ولذلك صرنا نرى كثيرا من الكتاب يستعيرون أحكاما وقضايا من الفلسفات الغربية، ويحاولون بناء الفكر الإسلامي عليها.

علاقة علم الكلام بغيره من العلوم

سوف نذكر هنا أمثلة نحاول بها تبيين كيفية اعتماد بعض العلوم والمعارف الإسلامية على علم الكلام.

أولا : أصول الفقه
لقد نصَّ العديد من العلماء على أن علم الكلام من مبادئ أصول الفقه، وأن كثيرا من القواعد التي يبني عليها أصول الفقه أحكامه وقضاياه مستمد أصلا من علم الكلام.
وسنذكر هنا بعض الجهات التي يظهر بها تأثير علم الكلام في أصول الفقه.
1- لا شك أن إثبات الأحكام الفرعية فرع ثبوت الباري ، وإثبات الله تعالى من أهم مسائل علم الكلام.
2- الأحكام الفرعية لا يمكن أن نعتقد بصحتها ما لم نثبت إمكانية إرسال الرسل، بل ووقوع الرسالة، لأنه مع عدم الإيمان بالرسالة كيف نؤمن بالأحكام الفقهية.
3- هناك بعض الأصول الكلامية التي ينبني عليها العديد من القواعد الأصولية، ومن أمثلة ذلك، وتتفرع عليها المذاهب الأصولية أيضا
أ‌- قاعدة التحسين والتقبيح العقليين: وحاصل هذه القاعدة، أن الأحكام هل لها ثبوت في نفس الأمر، فيكون العقل والشرع مظهرين ومبينين فقط للأحكام، أم إن ثبوت الأحكام إنما هو بإثبات الله تعالى لها، وبناءً على ذلك يكون الحاكم هو الله تعالى وحده، ويكون الشرع مهرا لحكم الله تعالى، وأما العقل فلا دور له في الإثبات أصلا، وإنما هو مظهر لهذه الأحكام بالاعتماد على مسلمات شرعية هي المعبرة عن كلام الله تعالى. فلا ثبوت للأحكام قبل فرض إرادة الفاعل المختار. قال بالمذهب الأول المعتزلة وقال بالثاني أهل السنة. وكثير من مباحث الاجتهاد تعتمد على هذا المبحث المهم.
ب‌- إفادة القطع عن طريق العادة، المعتمدة أصلا على نوع من الاستقراء، التي اشتهر القول بها عند الأشاعرة، وإن قال بها غيرهم من المعتزلة، ولكن الاعتناء التام بها لم يتجلَّ إلا عند الأشاعرة. وقد أقام بعض المعاصرين بحوثا دقيقة مبنية على هذا المفهوم،كما فعل العلامة محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء، واستنبط نظرية خاصة للمعرفة، وأسماه المذهب الذاتي للمعرفة. وقد أقام الأصوليون على هذه القاعدة أدلة كبيرة، مثل إفادة التواتر للعلم، وكون الإجماع حجة، وإمكان لإفادة خبر الآحاد للعلم.
ت‌- العادة ليست حاكما، بل هي ظرف لتعلق الحكم، فلو كانت العادة الحاكم لصار إنشاء الحكم منها، وهذا يتعارض مع ما قلناه من أن الحاكم إنما هو الله تعالى. فالعادة بعبارة أخرى إنما هي أحد المصاديق المحتملة ولكن الشائعة للمفهوم من الحكم الشرعي، فتعليق الحكم الشرعي بما اعتاده الناس، لا يقتضي تقييد الحكم بها، وقصره عليها.
ث‌- ولقوة مدخلية علم الكلام في أصول الفقه صار هناك اتجاهان رئيسيان للتأليف في علم الأصول، الاتجاه الأول يسمى بطريقة المتكلمين، وهو الاتجاه الذي ساد في أكثر العصور الإسلامية التي كانت نشطة ومنتجة في هذا العلم الجليل، والاتجاه الثاني سماه البعض بطريقة الفقهاء، وإن كان عندي ملاحظات على أصل هذه التسمية وتلك وحقيقة الفرق بين الطريقتين.

ثانيا:المنطق ونظرية المعرفة
لقد ربط المتكلمون بين المنطق وباقي العلوم، واستقر الرأي عندهم على أنه من العلوم المحمودة، والمفيدة، ولذلك وضعه الإمام الغزالي في مقدمة كتابه في الأصول المسمى بالمستصفى. ثم سار على هذا النمط كثير من الأصوليين. وكثير ممن لم يضع المنطق مقدمة للأصول بل لسائر العلوم، لم ينكر ذلك، ولكنه اكتفى بالكتب المؤلفة في علم المنطق. فعدم وضعهم مقدمة في المنطق لعلم الأصول لا يستلزم إنكارهم لفائدته.
ونحن لا يمكننا إنكار مدى العلاقة الحاصلة بين علم المنطق وعلم الكلام، حتى لقد اعتبر الإمام التفتازاني المنطث جزءا من الكلام، وإن خالفه في ذلك الشريف الجرجاني، واعتبره مقدمة له لا جزءا.
ولا نهمل أن نذكر أن قدماء المتكلمين كانوا يوردون كثيرا من أحكام المنطق وقواعد المعرفة البشرية في باب خاص سموه بباب النظر ، أو المعارف. وكانوا يوردون في هذا الباب أسباب المعرفة كالحس والعقل، والأخبار. ويتكلمون في العلاقة بين العلوم وكيفية اكتسابها وتنميتها.
ونورد ههنا بعض الجهات التي توضح كيفية تأثير الكلام على هذه المباحث
1- أقام المتكلمون نظرية العقل على أساس الوجود، فجعلوا العقل عاكسا لحقيقة الوجود، واعتبروه معبرا عن أحكام الوجود، ولذلك قالوا إن أحكام العقل إما بديهية أو نظرية، وكل منهما يكون صادقا بمطابقته لما في نفس الأمر، ويكون كاذبا بمخالفته له. فجعلوا المرجع في الصدق والكذب لما في نفس الأمر ولما في الخارج. فالمعيار عندهم في الحكم العقلي راجع في نهاية الأمر لا إلى الإرادة الإنسانية، كما قال بذلك كثير من الفلاسفة الغربيين، وبنوا على ذلك فلسفات عديدة. بل إلى ما هو سابق على الإرادة الإنسانية وأصل لها.
2- لقد درس المتكلمون بعض القضايا الدقيقة في طرق التفكير، وتوصلوا بمهارة إلى اكتشاف ما أسموه بالمفاهيم الاعتبارية، وهي عبارة عن مفاهيم يخترعها العقل اختراعا لتكون ممهدة لسيره في عملة التفكير، فهي تشابه العوامل المساعد في الكيمياء، أو الافتراضات الرمزية التي نخترعها عندما نحل مسألة رياضية، ولا يكون لها أثر إلا في تسهيل عمل العقل، ووصوله إلى نتائج قوية.
3- لقد أقام المتكلمون الربط بين المقدمات والنتائج على أصول مأخوذة من علم الكلام، بحسب مذاهبهم، فبعضهم قال إن الربط بين المقدمة والنتيجة عادي، وبعضهم قال إن الربط عقلي، وبعضهم قال إنه راجع إلى العلية، أي إنه واجب لا انفكاك عنه. ولا ريب أن هذه الآراء مبناها أصول كلامه، ومرجعها إلى القول بحقيقة العلاقات الكائنة في هذا العالم هل هي علاقات ضرورية قائمة على العلية والمعلولية، أم هي راجعة إلى إرادة الفاعل المختار، ومن قال برجوعها إلى الفاعل المختار، يقول أيضا إن الحكم والتناسق المرئي هو أيضا تابع لإرادة الله تعالى، ولا يقول إن إرادة الله تعالى تابعة للحكمة، وسوف نشير إلى هذه المسألة لاحقا إن شاء الله تعالى.
4- لقد أضاف المتكلمون العديد من الأحكام والقضايا في مباحث متعلقة بالمنطق، أقصد بها مواد القضايا، والمقولات. فأضافوا مثلا إلى مواد القضايا اليقينية الأخبارَ المتواترة، وذلك بعد أن أثبتوا بما سبق لنا الإشارة إليه أن التواتر يفيد القطع. وهذا يعتبر إنجازا عظيما لم يأخذ ما يستحقه من نظر المناطقة والكتاب المعاصرين. وكذلك فإننا نجد للمتكلمين نظرات جديدة دقيقة في مباحث المقولات، حيث نظروا في الأعراض النسبية والكيفيات النفسية والخارجية، وتأملوا في حقيقة الألوان والأكوان، وأثبت المحققون منهم أن الألوان مثلا هي نتيجة انفعال الحاسة بما في الخارج، وليس اللون موجودا في الخارج كما نراه ونشعر به في حسِّنا. وهذا الرأي يؤيده كثير من العلماء في هذا الزمان.
5- ونذكر هنا مسألة مهمة جدا تابعة لنظرية المعرفة، وهي أن المعرفة الإنسانية هل يشترط لها كي تكون صادقة أن تكون صورة مرآتية للواقع الخارجي، أم يشترط لها أن تكون صادقة عليه، فمطابقتها المذكورة في الصدق هل هي بمعنى أن تكون مرآة للخارج، أم يكفي صدقها على ما في الخارج كأحكام وإن لم تشكل صورة ماهوية له. وبناء على هذا اختلفت نظريات المناطقة المستمدة أصلا من علم الكلام بين قائل بالعالم ذهني ونافٍ له، فالقائل بالعالم الذهني قال بأن الماهية موجودة بنفسها في الخارج وهي هي الموجودة في الذهن والعقل. وأما الآخرون النافون لذلك فقالوا ما دامت الصورة العلمية في ذهننا صادقة في أحكامها على ما في الخارج، فهذا هو الشرط الكافي لتسميتها علما. وبناءَ على هذه المسألة الدقيقة، نفهم تماما كيف أنه يمكن البحث والنظر في الأحكام المتعلقة بالذات الإلهية والصفات، دون أن يتوقف ذلك على وجود تصور كامل لها، بل إنما يتوقف على علمنا بأحكام صادقة عليها، وبذلك تكون علومنا التي نستنبطها بالعقل في هذا الباب أحكاما لنسب وليست تصورات لماهيات أو حقائق. ولا يلزمنا التشبيه ولا استحالة النظر في هذه المباحث كما ذهب إليه إيمانويل كانت ومن قبل فرقة السمنية، وكما يدعيه كثير من المفكرين المعاصرين المتأثرين ببعض الفلسفات الغربية.

علوم اللغة:
وتشمل علوم اللغة النحو والبلاغة وغيرها من أصول اللغات
ويمكننا ذكر بعض وجوه اعتماد هذه العلوم على مباحث من علم الكلام
أولا: البحث في أصول اللغات، هل هي كلها وضعية من عند الله تعالى أو اصطلاحية من عند البشر، بالاعتماد على ما يقرره علم التوحيد فإن الله تعالى هو الخالق للبشر، وهو الذي علم سيدنا آدم الأسماء كلها، فلذلك مال كثير من الأصوليين والعلماء والمفسرين إلى أن أصل اللغات (إما لغة واحدة أو أكثر) إنما هي بوضع الله تعالى، ثم لم يحيلوا ولم يمنعوا أن تنشأ بعض اللغات وتتفرع عن تلك اللغة التي علمها الله تعالى لسيدنا آدم.
ثانيا: العلاقة بين اللفظ والمعنى. قال جمهور علماء الكلام بأن العلاقة بين اللفظ والمعنى إنما هي وضعية، وليس اللفظ هو الذي يولد المعنى توليدا، بل لا بد أن يسبقه نوع من الاصطلاح على وضع هذا اللفظ لذلك المعنى، ثم بحثوا في ماهية العلاقة بين اللفظ والمعنى، واختلفت أقوالهم على أكثر من خمس نظريات، منها النظرية الإرسالية الوضعية.
ثالثا: العلاقة بين اللغة والفكر، لا ريب أن الإنسان من حيث ما هو إنسان، فهو ناطق، ولكن هل النطق يقصد به الكلام باللغة، بحيث لا يكون الواحد إنسانا إلا إذا تعلم لغة أن إلا إذا تلفظ بلغة.
لا ريب أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والفكر، ولكن القول بأنه لا فكر إلا بلغة، لم يحظ بالقبول التام بين علماء الكلام، ولا بين علماء أصول الفقه، بل إن الفكر يسبق اللغة والتعقل لا يتوقف على اللغة، ثم لم ينكروا مدى إفادة اللغة للفكر بعد ذلك، ولكنهم قالوا إن ذلك ليس راجعا إلى نفس العلاقة بين الفكر واللغة، ولكنه راجع إلى قصور ذهن الإنسان عن استحضار المعاني العديدة جملة واحدة ودفعة واحدة إلا بتوسط توهما في المتخيلة أو الواهمة، ثم يتم ملاحظتهة من قبل العقل، فكلما لاحظ صورة لفظية استحضر المعنى الذي وضع له. فيكون اجتماع الصور اللفظية في الوهم بديلا أو مقرِّبا لاستحضار المعاني دفعة واحدة، وهذا الاستحضار هو الشرط الضروري للفكر.
بل إن علماء الأشاعرة أثبتوا أمرا وراء ذلك، فقالوا بأن الكلام لا يكون فقط باللغات والحروف والأصوات ، بل يوجد كلام نفسي وراء الحروف والأصوات، وهذا الكلام ليس هو عين العلم ولا هو عين الصور اللفظية المحفوظة في الوهم والحافظة. وهذا مبحث لا بد من دراسته والاعتناء به في نظري في هذا الزمان.
رابعا: الفرق بين المفهوم والمصداق: والفرق بينهما أن المصداق هو الموجود الخارجي الذي يمكن إطلاق اللفظ من حيث معناه عليه، وأما المفهوم فهو المعنى المفهوم من اللفظ عند إطلاقه. وتعدد المصاديق لا يستلزم كما هو واضح تعددَ المفهوم، وكثير من اللغويين الكتاب يظنون وهما منهما وضع بعض الألفاظ لأكثر من معنى ويستدلون على ذلك بإطلاقه على مصاديق مختلفة، ظانين أن كل مصداق يشكل معنى مستقلا للفظ. وغفلوا عن أن الأصل في الوضع أن يكون لكل لفظ معنى واحد، وأن الأصل عدم تكثر المعاني للفظ الواحد لأن هذا إذا كثر يعارض ما جعلت اللغة من أجله، وهو البيان والتوصيل والتوضيح. فيحل محل ذلك الإجمال والاشتباه.
وهذه المسألة راجعة عند النظر إلى أن الوضع هل هو أصلا للمعنى أو للمصداق الخارجي. وهذا لا شك مبحث في غاية الإفادة تتفرع عليه كثير من المسائل في علم اللغة ومعاني الألفاظ وفي التفسير. وقد انتبه إلى ذلك أكثر من عالم محقق ونحوي متقن ومنهم صاحب معجم المقاييس اللغوية أحمد بن فارس. ومشى على هذا النمط كثير من المفسرين واللغويين.
خامسا: لا شك أن حذاق العلماء الذين أبدعوا في علوم البلاغة وأسسوا لأصولها كانوا من المتكلمين، فمنهم الجاحظ والخطابي، والإمام عبدالقاهر الجرجاني، وكثير من الباحثين المعاصرين يلاحظون في الجرجاني أنه كان نحويا كبيرا، ولم يلاحظوا فيه أن معظم بنائه لأصول نظرية النظم كان معتمدا فيها على مفاهيم كلامية، بل إن كثيرا من مصطلحاته التي استعملها في كتبه هي أصلا كلامية. ولذلك فإننا نرى أن الذين اهتموا أصلا بنظرية الإعجاز التي من أجلها قال بالنظم، كانوا من المتكلمين الذين يعتقدون أن إعجاز القرآن إنما كان في بلاغته، وونظمه.
ولا نهمل أيضا أن نقول إن النظريات الأخرى للإعجاز كنظرية الإعجاز الصرفة التي قال بها النظام كما نقل عنه، وقال بها الإمام الجويني كما في كتابه النظامية وإن كانت بنحو مغاير لما قال به النظام من بعض الجهات، أصلها معتمد على أصول كلامية واضحة.

سادسا: أما علم النحو فلا ينكر واحد أن تأثره بعلم الكلام وطريقة البحث الكلامي متقدمة جدا، فظهر كثير من النحاة يبحثون في علم النحو على طريقة المتكلمين، وأكثر النحاة البصريين كانوا على هذا النمط، ونظرية العوامل واحدة من أهم الشواهد على هذا الأثر الجليل.

سابعا: لقد حرص النحاة على المقاربة بين طريقة تأليف الكلام وترتيبه وبين العالم الخارجي، فأرجعوا الأقسام الثلاثة للكلام إلى اسم وفعل وحرف، إلى نظرتهم في رؤية العالم، وأنه متألف من جواهر متصفة بصفات، تصدر عنها أفعال معينة أو تقوم بها أفعال معينة، ونسب تربط بين هذه الجواهر مع بعضها البعض، ونسب أخرى تربط بين الجواهر والأعراض القائمة بها، وبين الأعراض بعضها ببعض.
وهذا هو الأصل الكلام للأسماء الدالة على الذوات، وبعضها مشتقة من ملاحظة الذات حال اتصافه بصفات، أو قيام أعراض بها، ومن أفعال لا يمكن أن تحدث إلا من فاعل، وهذا هو الأصل الذي من أجله يقدر النحويون لكل فعل فاعلا، لاستحالة فعل بلا فاعل، ومن الحروف وهي الروابط بين ما تقدم.
ومن هذا نشأ ما يسمى بنظرية الوجود الحرفي في مقابل الوجود الحقيقي الخارجي، التي استعان بها لتوضيح بعض النظريات الكلامية أو الفلسفية مثل نظرية وحدة الوجود أو المثالية الموضوعية المطلقة.


ولن يتسع المقام لتوضيح جميع جوانب تعلق واعتماد سائر العلوم الأخرى على علم الكلام وأخذها منها، واستفادتها.

ونجمل الكلام إجمالا في بيان أثر علم الكلام في علوم ومعارف أخرى فنقول: يعد تفسير القرآن الكريم وجانب من علم الحديث خصوصا ما يتعلق بتحليل الأحاديث وشرحها جزءا من علم الكلام، فكما يعتمد الكلام على القرآن يفيد في تفسيره، وهكذا هي العلاقة التبادلية بين علم الكلام وبين سائر العلوم الأخرىكعلم الأخلاق، فعلم الكلام هو السعي الممنهج لتفسير القضايا المطروحة في النصوص الدينية. ولا شك أن النصوص الدينية هي القرآن والسنة.
وأما الأخلاق والفقه، فهما من هما علمان يهتمان بما يجب وما لا يجب فعله باطنيا وظاهريا من وجهة نظر الدين، فيمكن القول إن علم الكلام يحتاجهما وهما يحتاجان إلى علم الكلام، ولا شك أن الفقه في العلوم الإسلامية هو البديل عن الكثير من العلوم المعروفة عند غيرنا من الأمم الأخرى بأساء أخرى، كالأخلاق، والسياسة، وتدبير المنزل، والعلاقات الدولية، فكل هذه المباحث وغيرها هي أجزاء أو مباحث لعلم الفقه بالتعريف الإسلامي. وقد عرفنا العلاقة بين الفقه والكلام

المبحوثة في علم الكلام ولا تبحث في غيره من العلوم

بالإضافة إلى المسائل السابقة التي أشرنا إليها مما يبحثها علم الكلام وتستفيد منها العلوم الأخرى، فإن هناك مسائل لا تبحث في علم غير علم الكلام، ولا يشك عاقل في أهمية هذه لمباحث في ذاتها.
ومن ذلك
أولا: وجود الله تعالى وتوحيده، ومعرفة صفاته وما يترتب على ذلك من نتائج عملية عديدة لا تخفى.
ثانيا: مناقشة الأفكار والفلسفات الأخرى المخالفلة للدين الإسلامي، وهذه تنقسم إلى قسمين، معرفة مجادلة الأديان السماوية الأخرى، وتسميتها بالسماوية إنما هو باعتبار أصلها ومصدرها، لا باعتبار ما هي عليه الآن. والقسم الثاني معرفة مناقشة الأفكار والفلسفات الأخرى المستنبطة والمخترعة من قبل الإنسان. كالفلسفات العلمانية والمادية والوضعية بأنواعها المختلفة. فلا يوجد علم يليق أن تبحث فيه مثل هذه المباحث إلا علم الكلام.
وههنا تظهر خطورة البحث في التقريب بين الأديان، فإذا كان التقريب مشروطا باعتبار الدين الإسلامي في نفس المنزلة بالنسبة للأديان الأخرى، فهناك محظور، وإلا فمع اعتبار أولوية الإسلام وأحقيته، فلا مانع من بناء التعاون والتقريب على النهج الذي نذكره لاحقا. وهذا الأمر لا بد من ملاحظته والتشديد عليه عند الكلام على مسألة التقريب بين الأديان.
ثالثا: ولا ريب أن علم الكلام هو العلم اللائق ببحث النزاعات بين الفرق الإسلامية ومحاولة معرفة المصيب منها من المخطئ، أو الأكثر صوابا من غيره. والجدال بين المسلمين في أمور الدين مطلوب شرعا، خلافا لما يعتقده البعض من كونه محرما، وذلك أن الخلاف لا ريب واقع، وإزالة الخلاف واجبة بقدر الطاقة البشرية، ولا يمكن إزالة الخلاف أو محاولة ذلك إلا بالكلام والجدال بالتي هي أحسن. فالكلام في أمور الدين الأصلية، التي تسمى في عرفنا عقائدية، لا شك مطلوب.
وإهمال الخلافات أو محاولة تناسيها والتغافل عنها لا يمكن أن يكون بديلا عن محاول الوصول إلى الأقرب إلى الحق أو إلى الصواب منها. فعدم إمكانية الوصول إلى الاتفاق الشامل بين جميع المسلمين، لا يجوز أن يستلزم التغافل عن وجود الخلاف.
والأصول الكلامية تدل على أن الخلاف لا ريب حاصل، وقد تقرر في الدين الحنيف أن التعاون بين المسلمين لا بد واجب. فهاتان مقدمتان بديهيتان
الأولى وجود الخلاف واستمراره.
والثانية وجوب التعاون والتكامل بين المسلمين.
فإذا قلنا بأن التعاون لا يمكن حصوله إلا بالاتفاق التام بين سائر المسلمين على كل شيء في العقائد أصليها وفرعيها، فهذا يستلزم استحالة وجود التعاون. وهو باطل.
وإذا قلنا بما أن التعاون واجب، وهو مشروط بالاتفاق، فيجب علينا تناسي الخلاف ومحاولة التغافل عنه. فهذا لا ريب غير صحيح، لأن فيه إهمال الموجود وإغفال ما لا يمكن التغافل عنه، فكل فرقة تزعم أنها مالصيبة المحقة، فكيف يطلب منها التغافل عما تدعي أنها أصابت فيه.
فهذه هي الإشكالية في ضمن هذا الوجه من النظر.
والتحقيق الكلام المبني على الأصول الكلامية ، يقتضي الجميع بنوع من النظر يجمع بين هاتين المقدمتين، فواحدة منهما مأخوذة من الحس والمشاهدة ، وهي من وسائل المعرفة، والأخرى مأخوذة من القطعيات الدينية. فإهمال واحدة منهما أو التغافل عنها، لا يصح.
فيترتب على ذلك وجوب العمل على التعاون في حال ملاحظة الخلاف، ووجوب بناء كلام عملي للتعاون يلاحظة فيه هذان الوجهان والحقيقتان. فيجب بناء التعاون مع ملاحظة الخلاف.
فإما أن يبنى على المختلف فيه، أو على المتفق عليه، ولا شك أن البناء لا يكون إلا على المتفق فيه. وبالتالي ينبني العمل الواجب تحصيله على القدر الذي حصل عليه الاتافق بين المسلمين مع عدم إهمال خصوصية واحدة من الفرق الإسلامية واستمرار الجدال بينهم بالتي هي أحس.

رابعا: قد ينظر البعض إلى وجود الخلافات بين المسلمين على أنها خطر داهم، ويجب نفي الخلافات مطلقا، وأنها ضرر يؤدي بالأمة إلى مهلكتها. ولكننا نقول من جهة أخرى، إن وجود الخلافات المعتبرة بين الفرق الكبرى، مع كونه من جهة يترتب عليه بعض المفاسد إلا إنه يترتب عليه كثير من المصالح الأخرى، أهما دوام النظر وإدامة التحقيق والبحث في تلك الأصول. ويترتب عليها وجود التنافس في الرد على الخصوم الخارجين على الدين كل من وجهة نظر، فكما قال الإمام الغزالي عندما ناقش الفلاسفة، إنني لا أخاطبكم بلسان الأشاعرة فقط، بل بلسان سائر الفرق الإسلامية، فكلها تجتمع عليكم.
الحاجة إلى التجديد في علم الكلام:
لقد تكلم العديد من العلماء في هذا الزمان في ضرورة التجديد في علم الكلام على نحوين
الأول: التجديد في مناهجه، وإضافة ما يمكن إضافته، وإن كان هذا المجال في نظري محدودا بملاحظة ما قدمه إلينا علماؤنا الأوائل.
الثاني: التجديد بإضافة مسائل جديدة فيه تشتد الحاجة إلى معالجتها وتقديم الحلول المناسبة لها، ولا يوجد علم لائق بمناقشتها أكثر من علم الكلام بملاحظة تعريفه السابق.
ومن هذه المسائل:
مسألة الحرية والإسلام. على مستوى الأفعال وعلى مستوى التفكير.
مسألة الإسلام والعدال، والبحث في مفهو مالعدالة.
مسألة حقوق الإنسان والعلاقة بين الدين والحقوق الطبيعية للإنسان، ومن أين يعتبر الشيء حقا للإنسان وبأي مفهوم يعتبر حقا له.
القضايا المتعلقة بالمرأة وهل المطلوب المساواة أو العدالة، وعلى أي شيء تبنى العدالة.
مناقشة كثير من المباحث الفلسفية والعلمية المعاصرة التي تثير إشكالات لا بد من معرفتها: كنظرية النسبية والزمان والمكان، وهل الماضي موجود الآن، وهل الزمان أزلي والمكان لا حدود له، أم إن الزمان والمكان أمران محدودان.
ويجب مناقشة مسائل أخرى أيضا نحو علاقة أجزاء العالم بعضها ببعض هل هي علاقة العلية والمعلولية أم هي على نمط آخر يتناسق مع العقيدة وأصول التوحيد.

ولا يظنن ظانٌّ أن إدخال نحو هذه المسائل غريب عن علم الكلام،أو أنه تحريف وإضافة لم يكن القدماء متنبهين إليها، لأننا نقول إن هذا من نفس منهج علم الكلام، ولذلك فقد أدخل علماؤنا المتقدمون مسائل كالمسح على الخفين والإمامة مع أنهما من المسائل الفرعية، ملاحظين في ذلك جانبها الاعتقادي.
وقد جرت عدة خطوات في هذا العصر للتجديد في علم الكلام نذكر منها ما كتبه محمد إقبال، ووحيد الدين خان، في كتابه الإسلام يتحدى، والشيخ العلامة مصطفى صبري، الذي أعتبر كتابه (موقف العقل والعلم والدين من رب العالمين) من أعظم ما ألف في هذا العصر، ومن الكتب المغبونة التي لم تأخذ حقا من الدراسة والبحث. وكذلك ما قدمه العلامة محمد باقر الصدر من بحوث لطيفة ودقيقة. ومنها ما ألفه العلامة الطباطبائي، وهما من الشيعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق