الأحد، 31 أكتوبر 2010

بطلان عقيدة التجسيم للإمام ابن أبي جمرة الأندلسي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أظهر دينه فحاطه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين و سخر لدينه رجالا قام بهم وبه قاموا على الوجه القويم..فكانوا سيوفا مسلطه على أهل البدع والأهواء ومن بدل هذا الدين واصلي واسلم على محمد ابن عبدالله النبي الأمين الذي علم الأمة التوحيد والذي قرن الله اسمه باسمه وقال فيه قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين واصلي واسلم على آل بيته الأطهار وصحابته الأبرار


قال الإمام ابن أبي جمرة الأندلسي ( 699 هـ ) في كتابه بهجة النفوس وتحليها بمعرفة مالها وما عليها ( شرح مختصر البخاري ) في شرح الحديث الثالث صفحة 35 من الجزء الاول بعد ذكره للمبتدعة وذكر القدرية والجبرية ثم قال رحمه الله :
((ومنهم المجسمة لأنهم يقولون بالجسم والحلول ومعتقد هذا لايصح منه الايمان بعموم اللفظ المذكور في الحديث لانه لايصح الايمان بمقتضى لفظ الحديث حتى يصح الايمان به عز وجل بمقتضى ما اخبر به عن نفسه حيث يقول ( ليس كمثله شئ ) وشئ يطلق على القليل والكثير وعلى كل الاشياء فمن خصص هذا العموم وهو قوله ليس كمثله شئ لم يصح منه الايمان بعموم لفظ الحديث وان ادعاه لان من لايعرف معبوده كيف يصح له الايمان به وذلك محال .
ثم نرجع الان الى البحث معهم في بيان اعتقاداتهم الفاسدة باشارة الناظر فيها بالتناصف تكفيه ..
فنقول ادعاؤهم الجسمانية والحلول تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لايخلو اما ان يدعوا ذلك من طريق المشاهدة او من طريق الاخبار او من طريق القياس بالنظر العقلي ولا رابع ,
فان ادعوا المشاهدة فذلك باطل بالاجماع ولا يخالف فيه بر ولا فاجر ,
وان ادعوا الاخبار وتعلقوا بقوله عز وجل ( الرحمن على العرش استوى ) فباطل ايضا لان هذا اللفظ محتمل لاربعة معان وتأويلهم الفاسد خامس لها فكيف تقوم لهم حجة بلفظ محتمل لخمسة معان والحجة لاتكون الا بدليل قطعي ومع تلك الاربعة معان لها دلائل تقويها وتوضحها من النقل والعقل وتأويلهم الفاسد عليه دلائل تضعفه من طريق النقل والعقل وكيف يكون المرجوح دليلا يعمل به ويترك الراجح هذا من اكبر الغلط ؛ ثم نذكر الان تلك الوجوه ومايشهد لها من طريق العقل والنقل :
الوجه الاول: انه قيل في معناه عمد الى خلق العرش كما قال عز وجل ( ثم استوى الى السماء وهي دخان ) أي عمد الى خلقها والحروف في لسان العرب سائغ إبدال بعضها من بعض يدل على ذلك قوله عليه السلام في حديث الإسراء ( فأتينا على السماء السادسة ) وسنذكر ذلك في موضعه ان شاء الله تعالى ونشير هناك الى فساد مذاهب الشيع كلها ونشير الى طريقة الفرقة الناجية في سلامة اعتقاداتهم .
الوجه الثاني: قيل في معناه السمو والرفعة كما يقال علا القوم زيد أي ارتفع ومعلوم انه لم يستقر عليهم قاعدا وكما يقال علت الشمس في كبد السماء أي ارتفعت وهي لم تستقر يشهد لذلك قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هل زالت الشمس فقال جبريل عليه السلام لا نعم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لم قلت لا ثم قلت نعم فقال بينما قلت لك لا جرت الشمس مسيرة خمسمائة سنة وقد نص عز وجل على ذلك في كتابه حيث قال ( والشمس تجري لا مستقر لها ) على قراءة من قرأها بالنفي .
الوجه الثالث: قيل في معناه الحكم والقهر كما يقال استوى زيد على ارض كذا أي ملكهم وقهرهم .
الوجه الرابع : قيل انه اسم من اسماء الله عز وجل ولم يصح اسمه بذلك حتى تم خلق العرش فسمى بهذه الجملة كما سموا الرجل ببعلبك ومعد يكرب فلم يصح هذا الاسم الا بعد تمام الخلق ومعنى لم يصح أي لم يصح فهمه عندنا كما هو من اسمائه عز وجل مغاير لما غايره ولم يصح اسمه به الا بعد ظهور الخلق وقد قال بعض الصوفية في معنى هذا اللفظ شيئا وهو حسن لولا مافيه من التكلف من جهة العربية فقال الرحمن علا ووقف هنا ثم قال العرش استوى .
الخامس : ماذهبوا اليه بتأويلهم الفاسد من أن الموضع يقتضي الحلول والاستقرار فانظر الى هذا النظر الفاسد كيف يصح مع هذه الوجوه الظاهرة وكيف يصح مع مقتضى لسان العربية الذي يقتضي الحقيقة والمجاز فجعلوا هذا حقيقيا لا يقتضي المجاز ولم ينظروا الى دليل يخصص احد الوجهين الحقيقة والمجاز نضعف مركب على ضعف وكيف يسوغ اعتقاد هذا الوجه المرجوح مع عموم قوله عز وجل ( ليس كمثله شئ ) نفي بعموم هذه الاية دليلا على ماتأولوه ليس بحقيقي فابطلوا نصا لايحتمل التأويل وعموما لايحتمل التخصيص وهو قوله عز وجل ( ليس كمثله شئ ) بأحد خمس محتملات على ماتقدم وهو مرجوحها .
واما ما احتج به بعضهم لمذهبهم الفاسد بما روي عن الامام مالك رحمه الله لما ان سئل عن حقيقة الاستواء ماهو وكان من بعض جوابه هذا مشكل فليس لهم في ذلك حجة لانه سئل عن تحقيق شئ محتمل لاربعة اوجه صحيحة وهي ماذكرناه اولا فاجاب بان قال هذا مشكل لان تخصيص احد تلك المحتملات الاربعة وكل واحد منها صحيح فترجيح احدها على الثلاثة بغير دليل هو المشكل فكان تاويلهم على الامام فاسدا بغير ماذهب اليه كما تأولوا ذلك في الكتاب فاسدا .
واما ما احتجوا به لمذهبهم الفاسد بقول ابن ابي زيد رحمه الله في العقيدة التي ابتدأ الرسالة بها بقوله وانه فوق عرشه المجيد بذاته فلا حجة لهم فيه ايضا لأنهم خفضوا المجيد وجعلوه صفة للعرش وافتروا على الإمام بذلك والوجه فيه رفع المجيد لأنه قد تم الكلام بقوله فوق عرشه بذاته كلام مستأنف وهو من غاية التنزيه لأن مجد الله عز وجل بذاته لا مكتسبا ومجد عباده مكتسب فافتروا على الإمام هنا كما افتروا على الآخر هناك وكيف يجوز من طريق الدين أو العقل لمن له عقل ان يقول في لفظ محتمل الوجهين من طريق العربية ان يقول عن أحدهما وهو الفاسد هذا أراد القائل وهذا ممنوع شرعا لأن المؤمن لايحمل عليه السوء بالإحتمال وإنما يحمل الامر على اصحله وهو اللائق بالإيمان ويحمل على ظاهره وهو الاحتمال للوجهين معا وهو أقل المراتب .
واما البحث معهم من طريق العقل والنظر فلا يخلو أن يدعوا أن لهم على ذلك دليلا من طريق العقل و النظر أم لا
فإن ادعوا ذلك فهو منهم افتراء لأن أهل العقل قد اجمعوا على ان موجد الوجود غير محتاج لما أوجده لأنه لو كان محتاجا لما أوجده كاحتياج من أوجده إليه لاستويا ولم يكن للموجد تفرد بالكمال دون من أوجده وذلك محال ثم لا يخلو على زعمهم في الانتقال والاستقرار ان يدعوا أنه عز وجل كان قبل خلق العرش على شئ آخر غيره خلافه أو كان على غير شئ فإن ادعوا أنه كان على شئ لزمهم ان يكون قبل ذلك الشئ شئ وقبل الشئ شئ إلى مالا نهاية له وهذا باطل بالإجماع والعقل ثم لايخلو أن يدعوا انه لم يزل على شئ او انه كان على غير شئ وبعد ذلك انتقل الى تلك الاشياء من بعضها الى بعض فان ادعوا انه لم يزل على شئ لزمهم من ذلك سبق المخلوق للخالق وذلك مستحيل اجماعا وعقلا ونقلا وشرعا وان ادعوا انه كان أولا على غير شئ ثم انتقل إلى تلك الأشياء بعضها بعد بعض فلا يخلو أن يدعوا أن يكون انتقاله اليها احتياجا أو لغير احتياج فإن ادعوا ان ذلك كان للإحتياج فقد سقط البحث معهم لأنهم نفوا ما يليق بصفة الربوبية من الجلال والكمال ورجع محتاجا كسائر المخلوقات وذلك محال بالاجماع من كل الطوائف من المتكلمين وأهل العقل والنظر في حق الباري جل جلاله وإن ادعوا أن ذلك كان لغير احتياج لزمهم من ذلك أنهم وصفوه عز وجل لصفة النقص لأن مايفعل لغير احتياج كان عبثا وهذه صفة النقص وتعالى الله عن ذلك عولا كبيرا فإن ادعوا أن ذلك كان لغير احتياج ولاعبث وانما كان بوجه ما من الحكمة كما خلق الخلق وهو غير محتاج اليه وليس خلقهم عبثا قيل لهم الحكمة في الخلق قد بانت وهي ما أراد الله عز وجل من تبيين أهل الشقاء وضدهم واظهار اوصاف القدرة التي ليس للعبيد اتصال اليها ولامعرفة بها الا بالاستدلال بما ظهر من آثارها ومايدعونه فليس للحكمة هناك دليل على ما ادعوه بل الحكمة تقتضي ضد ذلك لأن من ليس كمثله شئ ينبغي بدليل الحكمة أن من ليس كمثله شئ أن لايحل في شئ ولا يحل فيه شئ ولايخالطه شئ لعدم التناسب فقد بان بطلان ماذهبوا اليه في هذه الثلاثة ولا رابع لها .
ومما يزيد ذلك بيانا قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ( لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي ) فيؤخذ من قوله أن الكتاب الذي كتب فيه هو فوق العرش أن حكمته جل جلاله اقتضت أن يكون العرش حاملا ومستودعا لما شاء من أثر حكمته وقدرته وغامض غيبه ليستأثر هو جل جلاله بذلك من طريق العلم والإحاطة عن جميع العالم كله فيكون ذلك من اكبر الأدلة على انفراده بعلم الغيوب الذي لايعلم مفاتيحها الا هو وقد يكون هذا الحديث تفسيرا لقوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) أي ان ماشاء من أثر قدرته وحكمته وكتابه هو الذي استقر على العرش لا ذاته الجليلة ولو اراد ذلك لأكده بالمصدر كما فعل في كلامه حيث قال ( وكلم الله موسى تكليما ) فأكده بالمصدر لأن العرب تقول جاء زيد ويعنون خبره أو كتابه او رسوله فإذا أرادوه بذاته قالوا جاء زيد نفسه فاثبتوا بذلك الحقيقة حقا فذهب مازعموه بنظرهم الفاسد والحمدلله .
وأما ما ادعوه من التجسيم وتعلقوا فيه بظواهر آي وأحاديث فليس لهم فيه حجة بدليل ما يتفصل به إن شاء الله ؛
فمن جملة ماتعلقوا بظاهره بحسب نظرهم الفاسد قوله عليه السلام حتى يضع الجبار فيها قدمه وفي رواية ساقه قال علماء أهل السنة في هذا اللفظ عشرة أوجه ونحن نذكر بعضها لكي يتبين فساد ماذهبوا إليه بها وقد ذكرها أبو البقاء في كتابه وغيره من الفقهاء فمن جملة ماقالوا فيه وهو أظهرها وأرجحها أنهم نقلوا عن أهل اللغة أن الكافر عندهم يسمى قدما فإذا كانت هذه اللغة فكيف يعرجون عنها الى غيرها كفى بهذا الوجه ردا عليهم ومنهم من قال أنه كما سمى الحجر الأسود عين الله وهو حجر مرئي مشاهد لا خفاء فيه لكن لما أن كان من لمس الحجر رحم وشهد يوم القيامة للامسه على ماجاء الخبر به سمي عين الله لكونه رحمة فكذلك لما ان كان موضع الغضب سمي قدما فلوم لم يكن نقل اللغة وكان الموضع يحتمل عشرة أوجه مثل هذا الذي ذكرناه وما أشبهه وتأويلهم الفاسد أحدها على زعمهم كيف يسوغ أن يجزم بواحد دون التسعة مع أنه هو أضعفها لأنه ينافي التنزيه ويخصص عموم قوله ليس كمثله شئ وكيف يخصص نص بمحتمل كفى بهذا أدل دليل في الرد عليهم فكيف واللغة لاتحوج الى ذلك يرد عليهم قوله عز وجل عن المؤمنين أن لهم قدم صدق عند ربهم وقد وقع الإجماع من أهل العقل والنقل أن ذلك بالمعنى لا على ظاهره فان هم تأولوه كما تأول الكافة لزمهم أن يتاولوا الآخر ويعتقدوه كما فعل الكافة وان هم حملوه على ظاهره وقالوا بان الصدق جسد مجسد وقدمه عند الحق سبحانه وباقيه عند المؤمنين فقائل هذا لا خفاء في حمقه فالبحث معه قد سقط والكلام معهم على رواية الساق مثله لأن الساق ينطق في اللغة على اشياء غير واحدة لأنهم يقولون ساق من جراد وساق من قوم ويقولون الساق ويريدون به الجارحة والاظهر في هذا الموضع واللائق به ان يكون المراد بالساق عددا من الكفار فاذا كملوا فيها تقول قط قط فبان فساد ماذهبوا اليه بما ذكرناه وفيه كفاية هذا البحث معهم من طريق النقل ,
واما البحث معهم من طريق العقل فلو كان ما زعموا حقا لما صح تعذيب اهل انار ولا حجبوا عن الله وقد حصل لهم العذاب والحجاب لأنه لو كان ذلك حقا على زعمهم لكان أهل النار في النعيم حين وضع القدم ولشاهدوا الذات الجليلة كما شاهدها أهل الجنة لأن مشاهدة الحق لايكون معها عذاب وقد اخبر عز وجل انهم محجوبون لان الرؤية مع العذاب لاتمكن فبان بطلان ما زعموا بدليل النقل والعقل واما مازعموا من اليد وتعلقوا في ذلك بقوله عز وجل اولم يروا انا خلقنا لهم مما عملت ايدينا انعاما الى غير ذلك من الآي والأحاديث التي جاءت بالنص في هذا المعنى فليس لهم فيه حجة ايضا لأن اليد عند العرب تطلق على أشياء غير واحدة فمنها الجارحة ومنها النعمة لأنهم يقولون لفلان على فلان يد يريدون به النعمة ومنها القوة لقولهم لفلان في هذا الأمر يد يريدون به معرفة به معرفة به وقوة عليه وكذلك ما اشبه هذه الاوجه وهي عديدة فكيف يحققون احد محتملات في اللغة ويجزمون به مع انه مناف لقوله عز وجل ليس كمثله شئ فبان بطلان ما ذهبوا اليه بدليل ماذكرناه من النقل واما البحث معهم من طريق العقل فلأن الملوك في الدنيا لايفعلون بأيديهم شيئا والذين يفعلون بايديهم انما هم رعاع الناس وهذا مناف للعظمة والجلال فبان بطلان ماذهبوا اليه من طريق العقل ايضا ,
واما ما زعموا من الوجه وتعلقوا في ذلك بغير ما آية وغير ما حديث فليس لهم فيه حجة ايضا لأنه يحتمل في اللغة معان عديدة فمنها الجارحة ومنها الذات كقولهم وجه الطريق يريدون ذاته ومنها الحقيقة كقولهم وجه الأمر أي حقيقته وما أشبه هذا المعنى وهي عديدة في اللغة فيأخذون بأحد المحتملات ويجزمون به ذلك باطل لا خفاء فيه وبعد بطلان ما ذهبوا اليه بما ذكرناه يرد عليهم قوله عز وجل فأينما تولوا فثم وجه الله فن حملوه على ظاهره وهي الجارحة فيكون الوجه قد احاط بجميع الجهات فلم يبق للذات محل وهذا باطل بإجماع اهل النقل و العقل وان هم تأولوه لزمهم التاويل في الآخر وكذلك أيضاً يرد عليهم قوله عز وجل كل شئ هالك إلا وجهه فان هم وقفوا أيضاً في هذه الآية مع ظاهرها فقط سقط تحتهم مرة واحدة لن الذات الجليلة بالإجماع لاتفنى ولاتتجدد وان هم خرجوا عن الظاهر وحادوا الى التأويل لزمهم نقض ماذهبوا اليه في الوجه الآخر ولزمهم الرجوع الى التأويل فيه الحقيقي الذي يليق به عز وجل وهو انه يعود على الذات الجليلة لا على الجارحة والاعتراضات واردة عليهم كثيرة وفيما ابديناه كفاية مع ان قوله عز وجل ليس كمثله شئ ينفي ذلك كله ويبقى مذهب اهل السنة لاغير ,
وأما مازعموا من الجسمانية وتعلقوا في ذلك بظاهر قوله عليه السلام ينزل ربنا كل ليلة الى سماء الدنيا الى غير ذلك من الآي والأحاديث التي جاءت في هذا المعنى فليس لهم في ذلك حجة أيضاً لأن ذلك في اللغة محتمل لأوجه عديدة كقولهم جاء زيد يريدون ذاته ويريدون غلامه ويريدون كتابه ويريدون خبره والنزول مثله كقولهم نزل الملك يريدون ذاته ويريدون أمره ويريدون كتابه ويريدون نائبه فإذا أرادوا ان يخصصوا الذات قالوا نفسه فيؤكدونه بالمصدر وحينئذ ترتفع تلك الاحتمالات ولذلك قال جل وعز في كتابه وكلم الله موسى تكليماً فأكده بالمصدر رفعا للمجاز فلو قال الشارع عليه السلام هنا ينول ربنا نفسه أو ذاته او أكده بالمصدر لكان الأمر ما ذهبوا اليه ولكن لما أن ترك اللفظ على عمومه ولم يؤكده بالمصدر دل على أنه لم يرد الذات وانما أرادوا نزول رحمة ومن وفضل وطول على عباده وشبه هذا معروف عند الناس لأنهم يقولون تنازل الملك لفلان وهم يريدون كثرة إحسانه اليه وافضله اليه لا انه نزل اليه بذاته وتقرب اليه بجسده فهذا مشاهد في البشر فكيف بمن ليس كمثله شئ لقد اعظموا الفرية ،
وأما مازعموا من الأصابع وتعلقوا في ذلك بما روي في الحديث ( ان السماء يوم القيامة تكون على اصبع واحد ) لأن العظمة مستعار لها اليد كما قال بيد عظمته وبيد قدرته فكنى هنا عن بعض أجزاء العظمة وعن بعض أعضاء القدرة بالإصبع لأن أضعف ما في اليد الإصبع فصرح هنا بأن بعض أجزاء القدرة وبعض أجزاء العظمة هي الفاعلة لما ذكر وان كانت العظمة والقدرة لا تتجزأ لكن هذا تمثيل لمن له عقل لأن المتحيز لا يعرف إلا متحيزا فضرب له مثل بما يتوصل الفهم اليه حتى يحصل له معرفة بعظم القدرة ولا يلزم المثال أن يكون كالممثل من كل الجهات فبطل ماذهبوا اليه بدليل ما ذكرناه ثم بعد ذلك يرد عليهم قوله عليه السلام ( مامن قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن ) ومعناه عند أهل السنة بين أمرين من أمر الرحمن فان هم تأولوه كما تأوله أهل السنة لزمهم التأويل في الآخر وأن هم حملوه على ظاهره لزمهم أن يقولوا بأن أصباع الرحمن عدد الخلق مرتين لأن مامن عبد إلا وهو بين أصبعين وأن الذات الجليلة تخالط ذوات العبيد بأجمعهم ومعتقد هذا لاخفاء في حمقه ولا شك فيه والبحث معهم قد سقط فانظر الى هذا الغباء الكلي الذي مرقوا به من الدين كيف منعوا به فائدة ما احتوى عليه قوله عز وجل ( قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) وقد أخبر الشارع عليه السلام أن في هذه الأرض الواحدة ألف عالم فإذا كان هذا العالم كله في الأرض الواحدة فكم في الارضين في الأخر وفي السموات السبع وما بينهما وقال عز وجل في خلق هذا كله ( وما مسنا من لغوب ) أي من تعب وفائدة مدلول هذا والأخبار به إنما هو ان يعلم أن هذا الخلق كله بعظمه وكثرة مافيه من المخلوقات في هذا القدر من الزمان لايكون بجارحة ولا آلة هذا ماهو من طريق النقل , واما من طريق العقل والنظر فهو ان العمل إذا كان بجارحة لايكون الا بعضه يتلو بعضا ولو كان ذلك كذلك لاستحال ان يكون ذلك الخلق العظيم المذكور في هذا الزمان القليل وهو ستة أيام ووجه آخر أيضا مشاهد مرئي مدرك وهو ان الجارحة التي تعمل الكثيف لا تستطيع على عمل الرفيع ومثاله الذي يعمل في الحلفا او في الفاغل وما أشبههما ان مديده للخز او الحرير او الرفيع من الكتان اتلفه مرة واحدة فكيف يفعل فيه شيئا يكون فيه فائدة وكذلك الآلة التي تعمل بها الأشياء لأن الآلة التي يعمل بها الرفيع لا يعمل بها الكثيف ومثاله منشار المشط لا يتأتى أن تنشر به الخشبة وكذلك جميع الآلات لا يجزي بعضها عن بعض لايجزي الرفيع عن الكثيف ولا الكثيف عن الرفيع وقد شاهدنا في المخلوقات مثل البعوضة والفيل الى غير ذلك من اللطيف والكثيف مع كثرتها فكثرتها مع اختلاف انواعها في قصر الزمان المذكور ادل دليل على ماذكرناه وهو ان خالقها اخترعها بقدرته دون جارحة ولا آلة ولذلك جعلها عز وجل دليلا لإبراهيم عليه السلام في عظيم اليقين فقال عز من قائل وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فلما أن أراد الله عز وجل من خليله عليه السلام قوة اليقين الهمه إلى النظر بالتوفيق في الملكوت فبان له ماذكرناه فكان من الموقنين يشهد لذلك قوله عز وجل شهد الله أنه لا إله إلا هو وشهادته عز وجل لنفسه هي ماتضمنه مدلول مخلوقاته بوضعها على انه جل جلاله ليس كمثله شئ نحو ماتقدم فالبحث مع هذه الثلاث فرق * على ماتقدم والتبيين لتخصيصهم ذلك العموم يتبين لك فساد ماذهب اليه غيرهم من الاثنين وسبعين فرقة وكيف تخصيصهم اللفظ العام .) انتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق